الرئيسية » المقالات » تخليد ذكرى » تخليداً لذكراهم – الشقيقان مصعب و فراس علي داوود

تخليداً لذكراهم – الشقيقان مصعب و فراس علي داوود

مصعب وفراس – شقيقان افترستهما الطائفية في حضن العائلة

مصعب – أبٌ سرقت الطائفية منه أحلام العمر

كان مصعب داوود في الثانية والخمسين من عمره، أبًا يعيش من أجل أولاده بكل تفاصيله. رجلٌ كدّ وتعب، وزرع سنواته في أرض الأمل، منتظرًا لحظة الحصاد. علّق قلبه على أمنيات بسيطة لكنها كبيرة في معناها: أن يرى ولديه الشابين يُكملان دراستهما، أن يرفع عينيه ذات يوم ويرى ابنته بثوب الزفاف، أن يبتسم أخيرًا وهو مطمئنّ أن تعبه لم يذهب سُدى.

عمل بإخلاص في الشركة السورية لنقل النفط، وكان يعود إلى بيته المتواضع في بانياس متعبًا من يومه الطويل، لكنه يحمل في قلبه امتلاءً لا يعرفه كثيرون. لم يكن غنيًا بالمال، لكنه كان غنيًا بمحبة عائلته وأحلامه الصادقة .

فراس – المربي الذي رحل قبل أن يُكمل رسالته

اما الاستاذ فراس علي داوود، فكان في الثامنة والخمسين من عمره، أستاذ لغة إنجليزية في ثانوية “فيهم محمد” بمدينة بانياس، وأحد الوجوه التربوية المحترمة التي تركت أثرًا طيبًا في نفوس طلابها وزملائها وكل من عرفه.
لم يكن مجرد معلم، بل قدوة في الأخلاق والثقافة، رجل حمل رسالة التعليم بتواضع وصبر، وسعى طيلة حياته لتأمين لقمة العيش الكريمة بعزّة نفس وشرف.

في بيت العائلة، كان رمز الحكمة والهدوء، وفي المدرسة، كان صورة للمُربي الحقيقي. خسارته ليست خسارةً لعائلته فحسب، بل خسارة للمجتمع بأكمله، ولجيل تربّى على يديه.

الرجلان اللذان احتميا بالعائلة… فغدرهما الوطن

حين دقّت طبول الخوف، وبدأت أصوات الرصاص تشقّ السماء وتخترق جدران البيوت، حمل عائلته وسارع إلى الطابق العلوي من البناء، حيث بيت والده، بحثًا عن ملاذٍ من رعبٍ لم يعهدوه. لم يكن وحده هناك، فقد اجتمع في ذلك البيت كلّ من ظنّ أن العائلة ستحميه من الجنون، وهناك التقى بأخيه فراس، وبابن أخته عبدالله، ذلك الشاب الطيّب، الوحيد لأمّه، الذي ما زال الحلم في عينيه غضًّا.

لم يكن بيت العائلة غريبًا على أحد، فقد كان دومًا مأوى للمحبة والكرم. ظنّ مصعب، كغيره، أن الخطر لن يطالهم، لأنهم عائلة لا علاقة لها بالصراع، لا بالسلاح ولا بالسياسة، وأن الاسم الطيب يشفع في زمن السوء.

لكنهم لم يعلموا أن رياح الطائفية لا تفرّق بين بريء ومذنب، ولا بين متورّط وعابر سبيل. فالوحوش التي اقتحمت المكان لم تكن تبحث عن عدالة، بل كانت تسعى للدم فقط، تصطاد الأرواح دون تمييز، وتغتال الحلم دون أن تسأل من حمل السلاح ومن لم يعرفه يومًا.

مشوا خلف عبدالله… والوجهة كانت الجنة

بدأ الرصاص في الصالون، أُطلق بين أقدام الجالسين ليزرع الرعب، قبل أن يبدأ المسلّحون بتفريق الموجودين.
قاموا باختيار الشباب الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين عامًا، واقتادوهم إلى منزل الجيران الخالي بحجّة “التحقيق”.
ظنّ الجميع أن التحقيق سيكون عن السلاح أو المطلوبين كما اعتادوا سماعه في الأخبار، ولم يتخيلوا أن المسألة لا تتعلق بأي ذنب، بل بهويتهم فقط.

ففي الغرفة التي ظنّوها جلسة استفسار، طُرح سؤال واحد حمل في جوفه رصاصة:
“أنت علوي؟”
وكان الجواب وحده كافيًا ليُطلق النار على عبدالله وشابين آخرين، في مشهد خالٍ من أي ذرة إنسانية.

حين أُخذ الشباب، لم يقف فراس ومصعب صامتين. كان عبدالله، ابن أختهم، قد استجار بهما، فهبّا يلحقان به، بدافع النخوة والرجولة، ظنًّا أن وجودهما قد يُطمئن، أو يمنع ما لا يُحمد عقباه.


اقتيد الشقيقان إلى سطح البناء، وهناك صادفوا جارًا مختبئًا، لم يُمهلوه، أردوه قتيلًا بطلقة مباشرة. ثم أُنزِلا إلى غرفة قيد الإنشاء، مكسوّة بالزجاج المحطّم وحديد البناء، وهناك سُئلوا السؤال ذاته، وأُطلق عليهم الرصاص بدمٍ بارد، وغادروا بعدها كما لو أنهم لم يسفكوا دمًا، وكأن من قُتلوا لم يكونوا بشرًا.

أرواح لا تُعوّض

رحل مصعب قبل أن يرى أولاده يحققون أحلامهم، رحل دون أن يُسمع صوت زغاريد ابنته، دون أن يحصد تعب السنين.
ورحل فراس، قبل أن يُكمل رسالته التعليمية، قبل أن يُكافأ على عمرٍ قضاه في غرس القيم والمعرفة في نفوس طلابه.

رحلوا معًا، أخوان حملتهما الحياة على دروب العمل والصبر، وجمعهما الموت في لحظة ظلم لا تُغتفر.

لكن اسميهما سيبقيان في ذاكرتنا، ليس فقط كضحيتين، بل كرمزين للطيبة والاجتهاد والكرامة التي لا تموت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

العودة إلى الأعلى