حلمٌ وُلِد في زمن الحرب
في سوريا، أن تصبح طبيبًا أو صيدلانيًا يعني أن تهب حياتك للعلم، أن تُفني شبابك في قاعات الدراسة، أن تحرق لياليك بين الكتب والمحاضرات، فيما يسهر الآخرون على ضوء الحرب والرصاص. في سوريا، لم يكن الشباب مجرد طلاب، بل كانوا مقاتلين في معركة ضد الفقر، ضد الظروف، ضد الزمن الذي حوّل أحلامهم إلى صراع للبقاء.
كانت هزار نزهة صاحبة الـ ٢٥ عاماً واحدة من هؤلاء الشباب، صيدلانية سورية كافحت لتصل إلى حلمها. منذ طفولتها، كانت ترى في الدواء حياة، وفي العلم نجاة، وفي الأمل طريقًا رغم أن جيلها لم يعرف يومًا بدون دمار. لكنها رغم كل شيء، اختارت الحياة، اختارت أن تكون نورًا في هذا الليل الطويل.
عروسٌ لم تكتمل فرحتها
قبل أشهر قليلة فقط، كانت هزار عروسًا تحتفل بفرحها، تحلم بمستقبل مشرق، وتشارك زوجها علي أحلامًا كانا يظنان أنها ستدوم. كانت حياتها للتو قد بدأت، كانت تجهّز منزلها، تزرع الحب في كل ركن، تساعد الناس، تبتسم لهم، تعطيهم الدواء وتمنحهم الأمل.
لكن الحياة لم تمنحها الوقت الكافي، ولم يمهلها الموت حتى لتتذوق حلمها كاملاً.
وحوش قادمة من الظلام.. قتلة لا يعرفون الحياة
في لحظة واحدة، جاء الموت إلى منزلها، لم يكن مجرد موت، بل وحشٌ قبيح، غريب، بلا وجه، بلا إنسانية. لم يكن لها عدو، لم تكن طرفًا في حرب، لم تحمل سلاحًا، لم تطلق رصاصة، كل ما حملته في حياتها كان علمها، أحلامها، وإيمانها الذي لم يفارقها حتى اللحظة الأخيرة.
لكن هذا لم يكن كافيًا ليحميها من ريح الإرهاب، من الموت القادم من الشيشان.. من القتلة القبيحين، الذين جاؤوا يقتلون الجمال، البراءة، والحياة.
جاؤوا وقتلو كلاً من هزار وأمها، السيدة وهيبة، وأخاها الطبيب ابراهيم وأختها الصيدلانية نور. جاؤوا ليطفؤن نورها، لأن الموت يكره الحياة، والقبح يكره الجمال، والظلام يكره النور. كانت هذه الجريمة جزءا من مجازر حي القصور في بانياس، والتي حدثت خلال فترة مجازر الساحل السوري الوحشية.
آخر كلماتها.. استغاثةٌ في وجه الموت
في لحظاتها الأخيرة، أمسكت هاتفها، وكتبت على فيسبوك:
“يارب دخيلك تلطف فينا يارب😔”
كلمات بسيطة، لكنها تحمل رعبًا لا يوصف، ألمًا لا يُقاس، إحساسًا بالموت وهو يقترب، بالحياة وهي تُسلب، بالخوف وهو يلتف حول الروح مثل كفن أسود.
لكن الله لم يُنقذها، لم تنجُ هزار، لم يُنقذها دعاؤها، لأن الشيطان كان أسرع، وكان الموت أكثر قسوة.
علي.. الشاهد الحي على المأساة
زوجها علي، كان بجانبها، لكنه لم يستطع حمايتها، لم يستطع حماية عروسه التي لم تكمل فرحتها. أصيب بجروح خطيرة، لكنه نجا، ليحمل جرحه مدى الحياة، ليبقى شاهدًا على ليلة لم يكن فيها رحمة، لم يكن فيها عقل، لم يكن فيها شيء سوى دم بارد، وسكاكين حاقدة، وقتلة جاؤوا من البعيد ليقتلوا أهل الأرض.

لن ننساكِ هزار..
هزار لم تكن مقاتلة، لم تكن سياسية، لم تكن سوى طبيبة شابة أحبّت الحياة، فقتلها من لا يعرفون إلا الموت.
هزار كانت رمزًا لجيل لم يعش يومًا من دون حرب، لكنه رغم ذلك، لم يتوقف عن الحلم.
هزار كانت وجهًا للعلم، للنقاء، للنور، لكنها رحلت بأبشع طريقة، لأن في هذا العالم، قد يكون الذنب الوحيد الذي يستوجب القتل هو أنك أحببت الحياة أكثر مما ينبغي.
لكن هزار لن تُنسى.
اسمها سيبقى في ذاكرة من أحبوها، قصتها ستظل شاهدًا على ظلمٍ لا يُمحى، وضحكاتها التي انطفأت ستظل نورًا يفضح بشاعة القتلة.
رحمك الله يا هزار، ورحم أمك وأخوتك، لعل السماء تكون أكثر عدلًا من هذه الأرض القاسية.



