الرئيسية » المقالات » سرقات وتخريب » أحمد.. حين يُسرَق تعب عمر الإنسان بلحظات
صورة مولدة بالذكاء الصنعي، تحاكي صورة الشاب "سليم" ومن خلفه متجره الذي تمت سرقته وحرقه

أحمد.. حين يُسرَق تعب عمر الإنسان بلحظات

(تم توليد صورة المقال باستخدام الذكاء الصنعي)

من النجاح، إلى ما تحت الصفر، قصة تمثل آلاف المنكوبين في الساحل السوري

في ركنٍ صغير من مدينة جبلة الساحلية، كان أحمد عبد الرحمن يمضي أيامه بهدوء في متجره المخصص لصيانة وبيع المعدات التقنية المتطوّرة. ذلك المتجر لم يكن مجرد وسيلة للرزق، بل كان ثمرة سنوات طويلة من العمل والإصرار، بناها الشاب لبنةً لبنة، رغم كل التحديات، في وطن أنهكه الموت والتشريد.

أعرفُ أحمد منذ صغره، يقول صديق الشاب والذي روى لـ “عيون على سوريا” القصة. لقد كان شابًا متعلّمًا وخلوقاً، ذو شغف بالهندسة المعلوماتية والتقنيات الرقمية. رفض حمل السلاح والانخراط في دوامة الحرب رفضاً قاطعا. بدلًا من ذلك، غادر واغترب في لبنان، حيث عمل لأكثر من ست سنوات في مجال التقنية الذي يعشقه، طور نفسه، ادخر ما استطاع، ثم عاد إلى بلده، ودفع بدل الخدمة العسكرية. كان يؤمن أن سوريا تستحق أن تُبنى بالعلم، لا بالدم.

بكل ما جمعه من مال وخبرة، افتتح محله وبدأ يكبّره شيئاً فشيئاً، وبدأ مشواره في حياةٍ أراد لها أن تكون منتجة وكريمة. لم يشأ أن يغادر، بل قال إنه سيبقى ليبني، مهما اشتدت الصعاب، كما أنه تزوج في بلده ورُزق بطفل.

رجل لا يملك إلا الخير… ولا يعرف إلا العطاء

أحمد لم يكن تاجرًا فحسب، بل من أصحاب الأيادي البيضاء. كان يُعرف في منطقته بروحه الطيبة، بل وكان قد بُعث فيه الأمل من جديد بعد سقوط نظام الأسد، ووعود الحكومة الجديدة. وفي عزّ الحصار الاقتصادي والمجاعة الصامتة التي عانى منها الساحل، خاصة نتيجة الفصل التعسفي وتوقف الرواتب، وبدلاً من النحيب على مواقع التواصل الاجتماعي، نظّم مبادرات ميدانية خيرية لجمع التبرعات من الداخل والخارج، ساهمت في إنقاذ مئات العائلات من الجوع. جهّز سلالًا غذائية، وفرّ الدواء، وتكفّل بأمور خدمية في قريته لم تكن الدولة قادرة على تأمينها.

لكن ماذا كانت مكافأته؟

سرقة كل شيء.. وتخريب تعب عمره

كانت المأساة تبدأ على دفعات، كما لو أن الألم لا يحب أن يأتي مرة واحدة:

  • في السرقة الأولى، داهم اللصوص محله، وهم أشخاص مجهولين تابعين لفصائل غير منضبطة قدمت إلى الساحل، لكن شباناً تابعين للسلطات أيضا لاحقوا السارقين وأعادوا جزءاً من المسروقات.
  • في السرقة الثانية، سُرق كل ما تبقى. تدخل أحد الجيران — من الطائفة السنية — وطرد اللصوص وأقفل المحل حمايةً له.
  • في المرة الثالثة، عاد اللصوص مجددًا. لم يكن هناك ما يسرق، لكنهم أكملوا ما بدأوه، وتركوا الدمار وحده شاهداً على ما حدث.

قيمة الخسائر تجاوزت 40 ألف دولار وفقاً لتقديراته، نصفها ديون مستحقة ثمناً للبضاعة الموجودة في المحل. لكنه لم يصرخ، لم يشكُ، فقط قال:

“الحمد لله، هذا كان قرباناً عن صحتنا، إن شاء الله نضل عايشين.”

البداية من جديد.. من الصفر

لم يكن قرارًا سهلًا، لكنه لم يكن يملك خيارًا آخر. بعد أن خسر كل شيء بناه على مدار سنوات — متجره، معداته، تعبه، وأحلامه — اضطر أحمد إلى مغادرة بلاده من جديد. عاد إلى الغربة مكسور الخاطر، لكن مرفوع الرأس، باحثًا عن عمل يرمم به خسارته، ويسند به عائلته الصغيرة وأهله الذين رفض أن يتركهم وحدهم في أصعب الأوقات.. كما وأنه لا يزال يحاول متابعة تنظيم العمل الإنساني في قريته الصغيرة عن بعد.

غادر أحمد وهو يحمل في قلبه وجعًا كبيرا، لكنه لم يفقد إنسانيته ولا إيمانه بأن الكرامة تبدأ من أن تبقى واقفًا حتى لو تهدم كل شيء من حولك.. أحمد لم يطلب الثأر، ولا الانتقام بل مجرد تحقيق العدالة.

مثال حي عن تدهور الأوضاع الاقتصادية المرعب في الساحل

حادثة أحمد لم تكن مجرد سرقة، بل وجه آخر من وجوه الانهيار الاجتماعي والاقتصادي الذي يضرب الساحل السوري، في ظل مجازر متكررة أودت بحياة أكثر من 1600 مدني في جبلة وبانياس واللاذقية خلال شهر آذار فقط، بحسب تقارير حقوقية.

هذه المجازر، التي غالبًا ما يتم التعتيم عليها إعلاميًا، أُرفقت بسلسلة من النهب والتدمير، طالت المحلات، البيوت، الممتلكات وحتى أحلام البسطاء. مئات المحلات أُفرغت، سيارات أُحرقت، وأهالٍ نُزحوا من قراهم إلى المجهول. أتت هذه المجازر بعد موجة عملاقة من عمليات الفصل التعسفي من الوظائف، طالت عشرات الآلاف أهالي الساحل وحرمتهم من معاشاتهم.

من الجوع إلى الإذلال اليومي

يواجه أهل الساحل صعوبة شديدة في تأمين الخبز، والدواء والغذاء نظراً لتردي الأوضاع الاقتصادية الشديد الذي ضرب الساحل، موقفاً عجلة الحياة فيه بشكل كامل. حيث تم فصل عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين من عملهم، وحدثت تأخيرات في صرف الرواتب للبقية، كما وتم تسريح العسكريين السابقين، وإعطائهم بطاقات تسوية مؤقتة بدل الهويات الشخصية (وهذه كانت في كثير من الاحيان سبب ادانتهم واذلالهم على بعض الحواجز).

بالإضافة انتشار الجرائم وانعدام الأمان، كما وبات سؤال (علوي أم سني) كثير الاستخدام وطبيعي في كل مكان. مما أدى الى لزوم الناس منازلها، وساهم في إيقاف ثائر الأنشطة الاقتصادية وتدهور الأمور.

والأخطر، أن الناس لم تعد قادرة على التمييز بين من يحميها ومن يبتزّها. بين العنصر المنضبط، وبين من ينظر إليهم بحقد طائفي وينكّل بهم تحت مسمى “السلطة”.

في جبلة، يُبنى اليأس على أنقاض المحبة

قصة أحمد، رغم بساطتها، تختصر حال آلاف القصص الأخرى، التي هربت من الظلم لتلقى ظلماً آخر، وليتم تحميلها اثم شعب بكامله ومعاقبتها على جرائم لم ترتكبها! من بنى شيئًا في هذا البلد خسر كل شيء. ليس فقط الأموال، بل سنوات العمر، الإيمان بالعدالة، الثقة في الغد. ومع ذلك، لا زالوا يقولون: “الحمد لله، وبه الأمل”.

فيديو يظهر جانباً من التخريب المتعمد الذي تم القيام به في مدينة جبلة مترافقاً مع مجازر الساحل السوري.


في جبلة، وفي كل زاوية من الساحل السوري، يُقتل الناس مراتٍ ومرات:
مرةً ببطش النظام وظلمه،
ثم مرةً بسرقة تعب أعمارهم وكدّ سنيّهم،
وثالثة حين يُحمّلون أوزار جرائم لم يرتكبوها،
ورابعةً برصاص الغدر الذي لا يفرّق بين مذنب وبريء.

لكننا نكتب… كي لا تُنسى القصص، كي لا تتحوّل المأساة إلى رقم، ولا يتحوّل المظلوم إلى مجرد ظلٍ في ذاكرة منكسرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

العودة إلى الأعلى