في ظل الغبار الكثيف الذي يغطي المشهد السوري، يصعب أحيانًا رؤية الأفق. مشاعر الغضب، الحزن، فقدان الثقة، والخوف من الآخر باتت مشروعة ومنتشرة في كل بيت.
لكن التاريخ، على قسوته، يعلّمنا أن الجراح وإن كانت عميقة، يمكن أن تلتئم. ففي بلادٍ صغيرة بإفريقيا، قبل ثلاثين عامًا فقط، كانت الشوارع تغرق في الدم، والمقابر تُحفَر بالأظافر. كانت رواندا حينها نموذجًا حيًا لانهيار الثقة، وتمزيق المجتمع، وتحوّل الجيران إلى قتلة، حيث تمت إبادة ما يقرب ٨٠٠ ألف مواطن في ما يوصف بإحدى أبشع عمليات الإبادة في العالم. واليوم؟ صارت رواندا من أسرع الدول نموًا في القارة، رمزًا للنظافة، والاستقرار، والمصالحة.
ما الذي تغيّر؟ وكيف يمكن لسوريا، الجريحة والممزقة، أن تستفيد من تجربة بلد لا يملك النفط ولا النفوذ، بل امتلك شيئًا واحدًا فقط: إرادة العيش المشترك.
شعب واحد، وأناس متشابهون تم تقسيمهم لخدمة أجندات سياسية
في عام 1994، شهدت رواندا واحدة من أسوأ المجازر في التاريخ الحديث. خلال 100 يوم فقط، قُتل قرابة 800,000 شخص، معظمهم من أقلية التوتسي، على يد متشددين من الهوتو. لكن لفهم عمق ما جرى، لا يكفي أن ننظر إلى الأرقام… بل إلى الجذور.
ما يجب أن يعرفه السوريون — وكل من يخشى من خطر الانقسام — هو أن الهوتو والتوتسي لم يكونوا شعوبًا مختلفة أصلًا.
- كانوا جميعًا روانديين.
- لهم نفس اللغة، ونفس لون البشرة، وحتى نفس الديانة بالنسبة الأعظم (٩٥٪ مسيحيين).
- يعيشون في نفس القرى، ويتزوجون من بعض.
- يعملون جميعًا في الزراعة وتربية المواشي، وتكاد الفروق الاقتصادية تكون ضئيلة.
- ولم تكن هناك وثائق رسمية تميّزهم… حتى جاء الاستعمار وفرض التصنيف.
السلطات الاستعمارية (البلجيكية تحديدًا) قامت بتقسيم الناس بناءً على عدد رؤوس الماشية التي يملكونها! فصنّفوا أصحاب الأبقار كتوتسي، والفقراء كهوتو، وأصدرت بطاقات هوية على هذا الأساس، لتخلق نظام تفوق اجتماعي مصطنع. هذه الفروقات “المخترعة” تحوّلت لاحقًا إلى نزاع دموي أودى بحياة مئات آلاف الأبرياء خلال ما يقل عل ١٠٠ يوم.
لا للثأر، نعم للعدالة
ما حدث بعد ذلك كان استثنائيًا: رواندا لم تُقسم، بل اختارت المصالحة — لكن بطريقتها الخاصة، الواقعية والجريئة.
قامت الأمم المتحدة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا لمحاكمة كبار المسؤولين عن الإبادة، وهم فئة محدودة من صانعي القرار والمنفذين الرئيسيين.
أما بالنسبة للمتورطين من عموم الشعب (حوالي ١٢٠ الف وفقا لبعض التقارير)، فقد اختارت رواندا نهجًا مختلفًا: أطلقت محاكم “غاشاتشا” الشعبية، حيث واجه الجناة الضحايا، واعترفوا بجرائمهم علنًا أمام المجتمع المحلي، مقابل تخفيف العقوبة والمساهمة في جهود إعادة البناء.
هذه المحاكم لم تكن مثالية، لكنها كانت واقعية، وقد ساعدت على تخفيف العبء عن القضاء، وتفريغ شحنات الغضب، وفتح باب المصالحة داخل القرى والمجتمعات نفسها.
إلى جانب ذلك، ألغت الدولة رسميًا كل تصنيف إثني أو قبلي، وجرّمت خطاب الكراهية. بات التصنيف نفسه جرمًا يُعاقب عليه القانون. في المدارس، لا يُسأل الطفل عن انتمائه العرقي.
في الإعلام، لا يُسمح باستخدام مصطلحات تُعيد إنتاج الانقسام.
وفي السياسة، تتردد عبارة واحدة: “نحن روانديون فقط، لا أكثر ولا أقل.”
رواندا اليوم: من جرح مفتوح إلى نموذج عالمي
هذا التحوّل لم يكن سهلًا، ولم يأتِ بين يوم وليلة، بل بإرادة شعب قرر أن لا يورّث الكراهية، وأن يُبقي المجزرة في الذاكرة لا في الواقع. رواندا اليوم:
- ثاني أكثر الدول أمانًا في إفريقيا
- أعلى تمثيل نسائي في البرلمان عالميًا
- اقتصاد سريع النمو
- تعليم موحّد، لا يذكر الهوتو والتوتسي
- نظافة، شفافية، وانخفاض الفساد
- بلد يعالج آلامه لا بتجاهلها، بل بمواجهتها بشجاعة
بل إن طريقة تعامل الروانديين مع المتورطين في المجازر، وأسلوبهم في تحقيق العدالة الانتقالية، تستحق أن تُدرَّس في الجامعات، لا كمثال مثالي، بل كنموذج صلب لحكمة شعب قرر ألّا ينكسر.
للتوسع أكثر، شاهد هذا الفيديو التوثيقي القصير عن تجربة رواندا
ماذا تعني رواندا لسوريا اليوم؟
ربما تختلف الجغرافيا، وربما يبدو المشهد السوري أعقد، أكثر تشعبًا، وأكثر تشويهًا بفعل الزمن والسلاح. لكن الجوهر واحد: شعب واحد تمزّق، وطوائف تعايشت قرونًا أصبحت تتوجّس من بعضها، لا لأن الاختلاف جديد، بل لأن الكراهية صارت تُدرَّس وتُشرَّع وتُبثّ ليلًا نهارًا.
تُعلّمنا رواندا أن الانقسام ليس قدرًا مكتوبًا، بل خيارًا يُفرض علينا حين نصمت، أو حين نصدق أن ما فُرض علينا هو نحن.
الكراهية لا تولد في القلب… بل تُزرع، وتُربى، وتُغذى بالكذب، وبالخوف، وبالخطاب الذي يقطع الإنسان من جذره الإنساني.
لكن التخلص منها… ممكن. رواندا نهضت لا لأنها نسيت، بل لأنها قررت أن تُبقي الجريمة في الذاكرة، لا في الحياة.
ولذلك، فإن على السوريين اليوم — جميع السوريين، بمختلف انتماءاتهم — أن يقرؤوا التاريخ لا كحكاية، بل كتحذير. أن يشغّلوا العقل لا الغريزة.
أن يتذكّروا أن ما نراه اليوم ليس الحقيقة… بل غبار فوضى الحرب، ارتفعت ذراته حين انفجرت البلاد، وستظل تحجب الرؤية ما دمنا نركض داخله ونؤجّجه.
الغبار لا يزول بالصراخ، بل حين يهدأ الناس… حين يتوقفون للحظة، يراجعون أنفسهم، ويقرّرون ألا يكرروا ما يلعنونه كل يوم.
وهنا يأتي دور العقلاء
ليس فقط في التهدئة… بل في نقل هذه الرسالة، في كسر الدائرة، في التذكير بأن ما نحياه ليس طبيعيًا، ولا دائمًا، ولا يمثلنا.
بل يمثل لحظة انفجار… حان الوقت أن نخرج منها، لنرى من جديد.