في الوقت الذي تتحدث فيه بعض الجهات عن “استعادة الاستقرار”، يعيش الساحل السوري ومناطق مجاورة له واقعًا مختلفًا كليًا: موجة غير مسبوقة من حالات الخطف والاختفاء الجديدة وخاصة بين النساء والفتيات، تراجع في ثقة الناس بالمؤسسات، وصعود خطير لحالات الانتقام الفردي والجماعي، من بين أحداث أخرى يمكنكم القراءة عنها في هذا المقال.
القلق الصامت: ملف المختفين والمخطوفين
نحن لا نتحدث في هذا المقال عن المفقودين في عهد النظام السابق، ولا عن من تم أسره عند سقوط النظام، ولو أنهما ملفان هامان، بل عن حالات خطف واختفاء جديدة انبثقت مؤخراً في مناطق الساحل السوري خاصة.
منذ مطلع نيسان 2025، لوحظ ارتفاع في عدد البلاغات المتعلقة باختفاء نساء وأطفال، لا سيما من فتيات الطائفة العلوية في مناطق الساحل وريف حمص وحماه، وسط غياب بيانات رسمية مؤكدة حول هذه الحوادث.
ورغم امتناعنا، في “عيون على سوريا”، عن نشر أسماء الضحايا أو مواقعهم الكاملة حفاظًا على سلامتهم وسلامة ذويهم، إلا أن مصادر متقاطعة ومتابعات ميدانية تشير إلى أن عدد الحالات المبلغ عنها جهراً تجاوز الخمسين، بعضها موثّق بمقاطع مصوّرة وشهادات نشرها أهالي المفقودين بشكل مباشر، وحصلت “عيون على سوريا” عليها، لكن تحفظنا على نشهرها.
في واحدة من هذه الحالات، ظهرت سيدة في مقطع مصوّر تناشد الجهات المختصة لمساعدتها في استعادة أولادها الثلاثة الذين فُقد أثرهم أواخر شهر آذار في محافظة طرطوس.
وفي حالة أخرى، ناشد رجل بإيجاد زوجته المفقودة من جبلة في ذات الفترة، وأفادت بعض المصادر مؤخراً (بعد مرور ٣ أسابيع) بظهور صورة حديثة لها، تُظهرها بحالة وُصفت بالمقلقة، دون ورود معلومات إضافية.
يُشار إلى أن العديد من العائلات تفضّل عدم الظهور العلني أو التصريح، نتيجة لمخاوف أمنية تتعلق بسلامة ذويهم أو تداعيات محتملة عليهم شخصيًا.
وما يبعث على القلق هو أن بعض هذه الحالات تحمل نمطًا متكررًا من حيث التوقيت والأسلوب. في المقابل، تم تسجيل حالات محدودة من العودة، منها استعادة فتاة تبلغ 18 عامًا في طرطوس بعدما تحولت لقضية رأي عام، وفتاة أخرى تبلغ 14 عامًا في اللاذقية، حيث تم نفي وقوع عملية خطف في حالتها الأخيرة. وقد أثارت بعض هذه التوضيحات والسيناريوهات تباينات في الرأي العام، لا سيما في ظل ما يعتبره البعض محاولات رسمية لتهدئة المخاوف أو احتواء الغضب الشعبي.
في ظل غياب جهة تحقيق مستقلة، واستمرار التعتيم الإعلامي من الجهات الرسمية، تبقى الحقيقة محاطة بالغموض، وتزداد المخاوف مع مرور الوقت.
يُفاقم هذا الوضع ضعف الشفافية حول ملف المختطفات، إلى جانب الحساسيات الاجتماعية والدينية المرتبطة به، مما يدفع العديد من العائلات إلى التزام الصمت أو الامتناع عن التبليغ والمشاركة، خشية الوصمة أو التعقيدات الأمنية
دوافع متعددة وغموض مستمر
تنوّعت الروايات المتداولة بشأن دوافع عمليات الخطف، حيث أبلغت بعض العائلات عن تلقي مطالبات مالية كبيرة مقابل إطلاق سراح ذويهم، ما يشير إلى وجود بعد ابتزازي في بعض الحالات.
في المقابل، تداولت بعض المصادر غير الموثقة روايات مقلقة حول احتمال تعرض بعض النساء المختطفات لأشكال من الاستغلال في ظروف تنتهك كرامتهن وحقوقهن الإنسانية، بما يشبه ممارسات سُجلت سابقًا في سياقات الحرب.
ورغم أن هذه الروايات ما تزال ضمن دائرة التكهنات، نظرًا لعدم وجود شهادات مباشرة من ناجيات تعزّزها، إلا أنها تثير مخاوف حقيقية، خاصة مع استمرار وجود مجموعات متشددة في بعض المناطق، عُرفت في الماضي بتورطها في انتهاكات مشابهة بحق المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال.
في الوقت الراهن، يبقى مصير العدد الأكبر من المفقودين مجهولًا تمامًا، ما يعزز القلق المجتمعي ويُبقي الباب مفتوحًا أمام سيل من الأسئلة المؤلمة.
نحو استعادة الثقة… لا وقت للتأجيل
ملف المختطفات ليس مجرد أرقام، ولا حادثة عابرة يمكن تجاوزها بالصمت. إنه جرح مفتوح في الضمير الجماعي، يختبر قدرة المجتمع السوري على حماية أضعف مكوناته واستعادة حقوق المظلومين. ورغم تعقيد الموقف وغياب الإجابات الحاسمة حتى الآن، ما زالت هناك خطوات عملية ممكنة يمكن أن تشكّل فارقًا حقيقيًا، من بينها:
- توفير نافذة تواصل رسمية وآمنة تُتيح للعائلات الإبلاغ بسرّية، دون خوف من الوصمة أو العواقب.
- زيادة الشفافية فيما يتعلق بوجود حالات الخطف أو عدمها، مع احترام خصوصية الأفراد وعائلاتهم،
ما يسهم في تقليل التناحر والتشكيك المتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والذي بات يغذّي حالة من الانقسام والتوتر المجتمعي. - تشكيل لجنة مستقلة للمتابعة والتوثيق تضم شخصيات حقوقية ومجتمعية موثوقة، يمكنها جمع المعلومات، وتقديم تقارير دورية تُسهم في تطمين الرأي العام.
- فتح المجال أمام مبادرات إعلامية وإنسانية مسؤولة تعالج القضية بعيدًا عن الإثارة أو التسييس، وتُعلي من قيمة التضامن والمسؤولية.
ما نحتاجه اليوم، قبل أي شعارات، هو بناء مناخ من الأمان والثقة بين الناس، حيث يشعر المواطن أن صوته يُسمع، وأن كرامة أبنائه ليست عرضة للنسيان أو المساومة.
إن إنقاذ هذا الملف ليس شأنًا أمنيًا فقط، بل اختبارٌ لقيمة الحياة وقيمة الإنسان في سوريا الجديدة.